معضلة سلاح حزب الله- بين خيارات الدولة وواقع التحولات الإقليمية

فور انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، تصدر موضوع سلاح حزب الله جدول المناقشات اللبنانية الداخلية. هذا الموضوع حظي بأهمية قصوى من قبل المبعوثين العرب والدوليين، متجاوزًا قضايا أخرى ذات أولوية. وقد طُرح هذا الموضوع تحت مسميات مختلفة، منها "نزع الذرائع" و"حصر السلاح" بيد الدولة، لتكون هي الجهة الوحيدة المخولة باتخاذ قرار الحرب والسلام.
وفي سياق متصل، أُثير جدل حول "سلاح المخيمات"، تزامنًا مع ترقب اللبنانيين لزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت. وتعتبر هذه الزيارة "محطة تاريخية" تهدف إلى إجراء مباحثات مع الرئاسات اللبنانية الثلاث حول مسألة نزع السلاح الفلسطيني.
إن مواقف الأطراف المحلية بشأن قضية "السلاح" راسخةٌ الجذور، تعود إلى حقبة الحروب الطائفية التي عصفت بالبلاد قبل نصف قرن، وتعمقت في ظل "الصدع المذهبي" الذي شهدته لبنان والمنطقة خلال الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة.
إلا أن تطورات جديدة بدأت تظهر في الساحة اللبنانية، لم يعهدها حزب الله من قبل. هذه التطورات تتمثل في تبني الدولة بمؤسساتها السيادية، بما في ذلك الرئاسة والحكومة والأغلبية النيابية، مطلب "حصر السلاح" و"احتكار قرار الحرب والسلام". هذا التوجه يأتي بعد سقوط ما كان يعرف بـ "المعادلة الذهبية": شعب وجيش ومقاومة. هذه المعادلة لم تعد قائمة، ولم يعد سلاح الحزب يتمتع بالغطاء الرسمي الذي حظي به لسنوات طويلة.
تطور لافت آخر طرأ على المشهد اللبناني، هو انتقال الجدل حول "السلاح" إلى داخل حزب الله و"الثنائي الشيعي" وبيئته الاجتماعية. ما كان يُذكر سابقًا بصوت خافت وعلى الهامش، أصبح اليوم يُطرح علنًا وبشكل مباشر. التساؤلات التي كانت حبيسة الصدور، أخرجتها الحرب ونتائجها المأساوية إلى العلن، خاصةً مع تفاقم أزمة "فراغ القيادة" الذي خلفه رحيل السيد حسن نصرالله، الزعيم ذو الكاريزما للحزب و"المحور".
وثمة تقديرات جادة تشير إلى تحولات في الحزب وبيئته، مما يرجح أن تجربة احتكار "الثنائي" للتمثيل الشيعي في لبنان قد لا تدوم طويلًا. الباب مفتوح الآن لظهور قوى ومراكز جديدة على الساحة "الشيعية السياسية اللبنانية". والتحديات التي واجهها الحزب والثنائي من قبل العائلات والمجتمع المدني والمستقلين في الانتخابات البلدية الأخيرة، ما هي إلا بوادر لمرحلة جديدة.
وبالتركيز على موضوع "السلاح" تحديدًا، وبغض النظر عن المراجعات التي يشهدها الحزب وحلفاؤه وبيئته حول مختلف الشعارات والمسلمات التي وجهت مواقفه وسلوكه خلال الحرب، يرى أحد المقربين من الحزب أن طرح السؤال عن وظيفة السلاح بات ضروريًا بعد سنوات من اعتباره أمرًا مسلمًا به وثابتًا في المعادلة اللبنانية والإقليمية.
هذا "السلاح" كان له ثلاث وظائف رئيسية: الردع، الحماية والتحرير. وكل وظيفة من هذه الوظائف كانت كافية لإضفاء "الشرعية" عليه وتبرير التمسك به. ولكن، لا توجد أي من هذه الوظائف اليوم. فإسرائيل نجحت في "كسر" معادلة "الردع المتبادل" التي بناها الحزب بعد حرب 2006، وأصبح لبنان بلا حماية، مع تعرض أراضيه لانتهاكات إسرائيلية مستمرة.
أما مسألة التحرير، فقد أصبحت مهمة للأجيال القادمة، إذا استمر الوضع على ما هو عليه. ومن المؤكد أنها ليست مدرجة على جدول الأعمال "العملي" للحزب وأنصاره، على الرغم من أنها لا تزال جزءًا من الخطاب و"المبادئ".
يستشعر الحزب مأزقًا حقيقيًا في خياراته. فالصبر و"ضبط النفس" لا يقللان من المخاطر الناجمة عن استمرار إسرائيل في استنزافه ماديًا وبشريًا، ولا من تداعيات هذه الانتهاكات على معنويات بيئته الشعبية. هذا الأمر سيؤدي إلى تآكل الثقة بالحزب وسلاحه وموقعه ودوره.
في المقابل، فإن رد الحزب على التجاوزات الإسرائيلية المتزايدة، قد يشعل فتيل حرب جديدة، ستشهد استخدامًا مفرطًا للقوة من قبل الجيش الإسرائيلي، دون رادع أو حسيب، وربما بتشجيع من أطراف محلية وعربية ودولية، تسعى إلى استئصال الحزب وسلاحه، حتى لو كان ذلك على طريقة نتنياهو.
وفي ظل هذين الخيارين الصعبين، تبنى الحزب خيارًا ثالثًا، وهو تحميل الدولة اللبنانية مسؤولية وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، وإخراج الإسرائيليين من النقاط الحدودية والإفراج عن الأسرى. ولا يزال الحزب يمارس الضغوط على مؤسسات الدولة لتفعيل دبلوماسيتها واستخدام أوراق الضغط المتاحة لديها ولدى أصدقاء لبنان لتحقيق هذه الأهداف. ولتسهيل هذه المهمة، يلتزم الحزب بضبط النفس الكامل ويتعاون مع الجيش اللبناني جنوبي الليطاني لتسليم الأسلحة والمواقع، مما سمح لرئيس الجمهورية بالإعلان عن إنجاز 90% من مهمة الجيش في الجنوب دون عوائق.
لكن الحزب، وهو يراهن على "خيار الدولة" لتحقيق ما فشل هو في تحقيقه، يدرك تمامًا محدودية قدرة الدبلوماسية على تحقيق معجزات. وهو يعلم أن نجاح الدولة في مسعاها مرهون بتقديمه تنازلات من "سلاحه"، ليس فقط في الجنوب، بل في جميع الأراضي اللبنانية، وليس فقط سلاحه، بل سلاح حلفائه اللبنانيين والفلسطينيين أيضًا. هذه المعضلة تضعه في موقف صعب.
ومما يزيد الأمور تعقيدًا، عدم وجود خيار سهل لدمج سلاح الحزب ومقاتليه في أجهزة الدولة العسكرية والأمنية. فلا توجد "نظرية للأمن الوطني اللبناني" متفق عليها أو تحظى بتأييد غالبية اللبنانيين، ولا توجد "إستراتيجية دفاعية" طال الحديث عنها دون أن تتحقق.
إن سيناريو "الحشد الشعبي" غير مقبول من قبل الرئاستين الأولى والثالثة، وفريق كبير من اللبنانيين. كما أن صيغة الإدماج الفردي للمقاتلين في صفوف الجيش والأمن غير مقبولة أيضًا، لأنها ستخل بنظام "المحاصصة" المعتمد في التوظيف والتشكيلات والتعيينات في لبنان، بالإضافة إلى الاعتراضات الخارجية التي ستنهال على لبنان في حال تبني أي من هاتين الصيغتين. يمكن لخيار "الدمج الفردي" أن يوفر حلولًا جزئية للمشكلة، لكنه لا يعالج مستقبل "جيش" من المقاتلين المدربين الذين أنشأهم الحزب على مدى عقود.
وبنفس الصعوبة التي يواجهها الحزب في تبرير بقاء السلاح والحفاظ عليه أمام خصومه وحتى بعض حلفائه الذين بدأوا في الابتعاد عنه، تجد الدولة نفسها في موقف صعب للتعامل معه ومع سلاحه. فهناك من يستعجل "نزع السلاح" ويعتبره شرطًا أساسيًا للانفراج، وهناك أطراف متشددة لا تمانع في اللجوء إلى "القوة" لتحقيق ذلك.
لكن لبنان لا يزال يضم عددًا كبيرًا من العقلاء، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية، الذين يرون أن "الحوار" هو السبيل الوحيد لتحقيق ذلك، وأن اللجوء إلى العنف قد يؤدي إلى عودة الحرب الأهلية وتدمير لبنان على يد أبنائه هذه المرة، بعد أن تسببت إسرائيل بخراب كبير خلال الحرب الأخيرة.
والأهم من ذلك، أن خيار اللجوء إلى القوة قد لا يؤدي إلى نزع سلاح الحزب، بل قد يؤدي إلى تسليح بقية الأحزاب والطوائف اللبنانية، وهي نتيجة يخشاها معظم اللبنانيين، الذين استذكروا مؤخرًا الذكرى الأليمة لحافلة عين الرمانة، الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية قبل خمسين عامًا.
السلاح في البعدين الإقليمي والدولي
هناك تطوران إقليميان ودوليان يؤثران على قضية "السلاح" ومستقبله:
الأول: نشأ بعد سقوط نظام الأسد في سوريا في الثامن من ديسمبر، وما تبعه من تفكك "المحور" وتجفيف مصادر التمويل والسلاح التي كان يعتمد عليها الحزب منذ نشأته. وقد شاءت التطورات في سوريا أن يصل إلى السلطة فريق سياسي وعقائدي لديه خلافات مع الحزب.
ومع ذلك، لم يفقد بعض أعضاء الحزب وأصدقائه الأمل في أن التطورات في سوريا قد تعيد الاعتبار لسلاح الحزب وتجدد الحاجة إلى الاحتفاظ به. وبعد أحداث الساحل السوري ونزوح أعداد كبيرة من السكان إلى قرى وبلدات في البقاع والشمال اللبناني، ظن البعض أنه يمكن استخدام هذا السلاح لمواجهة "التهديد" القادم من الشرق والشمال، وأن هذه الرواية قد تنجح في تبديد مخاوف بعض اللبنانيين (المسيحيين والدروز والعلويين) من استمرار الحزب في الاحتفاظ بسلاحه.
لكن التطورات المتسارعة في سوريا، وخاصة بعد جولة ترامب الخليجية ورفع العقوبات عن سوريا، وقمة الشرع-ترامب برعاية سعودية-تركية، قد أضعفت هذا الرهان، إن لم تكن قد أسقطته تمامًا. وعلى النقيض من ذلك، بدأت تنتشر أقاويل وتنبؤات في الأوساط السياسية والإعلامية اللبنانية عن وجود توجه إقليمي ودولي لإعادة "تلزيم" لبنان لسوريا الجديدة، في استعادة لفترة سابقة من العلاقة بين البلدين، وخاصة بعد ظهور مؤشرات على أن سوريا في طريقها لإبرام تفاهمات مع إسرائيل حول الوضع في الجنوب واستعادة اتفاقية فك الاشتباك (1974)، وربما الانضمام إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" لاحقًا.
ومن المفارقات في المشهد اللبناني، أن الذين عارضوا شعار الأسد عن "تلازم المسارين" اللبناني والسوري منذ اتفاق 17 مايو بين لبنان وإسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي، هم أنفسهم الذين يميلون إلى تبني هذا الشعار من جديد، ولكن في سياق إقليمي متغير، يراهن على إنهاء ظاهرة المقاومة والسلاح والدخول في ترتيبات وتفاهمات مماثلة للاتفاقيات الإبراهيمية. فهل هذا ما قصده الأمريكيون عندما تحدثوا عن عدد من الدول العربية التي ستنضم إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" قريبًا؟
الثاني: يتعلق بمفاوضات مسقط بين إيران والولايات المتحدة، التي يراقبها الحزب ولبنان باهتمام كبير بسبب تداعياتها المباشرة على حاضر ومستقبل البلاد. فإذا أسفرت المفاوضات بوساطة عمانية عن اتفاق يعيد دمج إيران في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي، فإن "السلاح" سيتحرر من دوره "الإقليمي" وسيصبح شأنًا لبنانيًا منفصلًا عن تداعيات الإقليم ومحاوره وعلاقاته المعقدة. أما إذا فشلت مفاوضات مسقط وعادت طبول الحرب إلى القرع، فمن المرجح أن يطيل ذلك أمد الحسم، وقد يبقى الحزب ولبنان عالقين بانتظار انتهاء الحرب والضربات العسكرية التي قد تكون الخيار الوحيد المتاح أمام إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، كما تشير إلى ذلك معظم المواقف والتقديرات.
في جميع الأحوال، يواجه الحزب في لبنان ما تواجهه حماس في غزة: الضغط بورقة المساعدات والعقوبات وإعادة الإعمار، وهو سلاح أشد فتكًا من الحرب المباشرة، لأنه يستهدف البنية التحتية المدنية ويسبب أضرارًا ومعاناة كبيرة.
لقد أصبح واضحًا، وموضع إجماع نادر عربيًا ودوليًا، أن قرار "الإفراج" عن لبنان، لن يُتخذ قبل أن يتخذ الأخير قرارين استراتيجيين: أولهما وأهمهما، نزع السلاح، وثانيهما، إجراء الإصلاحات المالية والاقتصادية والقانونية اللازمة لوضع حد للفساد والهدر وتدهور الإدارة العامة.
وإذا كان الحزب قد نجح في ختام حرب 2006 في إدارة معركة "إعادة الإعمار"، بفضل الموارد التي قدمها له حلفاؤه، وخاصة إيران، وفي ظل ظروف لبنانية وإقليمية ودولية مواتية، فإنه اليوم عاجز عن إنجاز المهمة بقدراته الذاتية أو بالاعتماد على حلفائه، الذين تقطعت بهم سبل الوصول إليه وإمداده. هذه المعضلة، إذا استمرت، فسوف تخلق أزمة بين الحزب وبيئته، وستطعن في مصداقية وعود التعافي والتعويض وإعادة الإعمار التي قطعها لجمهوره. الوضع اليوم مختلف تمامًا عما كان عليه قبل عشرين عامًا.